ماذا يعني اعتراف الرئيس الأمريكي بايدن بكون المذبحة التي تعرض لها الأرمن في الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية إبادة جماعية ؟
يعني ببساطة أن الدولة التركية الحالية، ولو أنها غير مسؤولة بشكل مباشر عن مذبحة حدثت عام 1915، ستكون مجبرة على دفع تعويضات للشعب الأرميني، وإذا ما رفضت ستفرض عليها واشنطن عقوبات.
والعقوبات الأمريكية منذ وصول بايدن للبيت الأبيض تنهال على محور روسيا من كل صوب وحدب.
وفي حالة تركيا فإن واشنطن تعرف أن سنة 2023 ستكون هي سنة انتهاء معاهدة لوزان التي فرضت على تركيا، إضافة إلى تخليها عن أطراف إمبراطوريتها المترامية، اعتبار مضيق البوسفور ممرا مائيا دوليا ولا يحق لتركيا تحصيل أية رسوم على السفن التي تعبره.
وابتداء من 2023 ستبدأ تركيا في تحصيل الرسوم من مضيق البوسفور، مما يعني أن هذه السنة ستكون بمثابة ولادة ثانية لتركيا. واشنطن لم تهضم كيف أن الحليف التركي الذي منحته المساعدات حتى اشتد ساعده فغادرها نحو الحضن الروسي، لذلك فهي تستغل قضية الأرمن لكي ترد السلطان العثماني إلى حضنها، ويبدو أن واشنطن لديها في قبعتها أكثر من ملف ستخرجه للجم تركيا في الوقت المناسب، ليس أقلها ملف الأكراد الذين أعادت إليهم واشنطن الدعم المالي واعترفت بهم.
ولهذا فواشنطن تستبق الأحداث وتضع كل العصي التي تستطيع في عجلة تركيا، تماما كما تضعها في عجلة روسيا والصين، وحتى ضد اليونان وقبرص لمجرد شرائهما لأسلحة من روسيا.
والملاحظ أن بايدن يستحق عن جدارة لقب الطراكس، فقد بدأ عهده باستراتيجية القطيعة والصدمات الكهربائية، فتأخر في الإتصال بنتانياهو عقب تنصيبه رئيسا لأمريكا، وفترت علاقته بتل أبيب، بينما صرف أموال الدعم للفلسطينيين التي جمدها ترامب وألغى الاعتراف بالمستوطنات.
أما العربية السعودية، الحليف التقليدي، فقد أشهر في وجهها ملف خاشقجي، فيما الإمارات خفضت معها واشنطن صفقات السلاح إلى الحد الأدنى، أما بالنسبة للدول الأفريقية فبايدن يلعب ورقة الأقليات العرقية، وأثيوبيا خير مثال حيث اعتبر بايدن ما يحدث في تيغراي بهذا البلد تطهيرا عرقيا ضد أقلية الأمهارة، مما جعل أمريكا تلوح بسوط العقوبات، وهي إشارة نحو إسرائيل الحاكم الفعلي في أثيوبيا ومشاريعها المائية على النيل التي تهدد الأمن القومي لدولة مصر، الحليفة التقليدية لواشنطن.
وماذا بخصوص المغرب ؟
الملاحظ أن بايدن لن يستطيع التراجع عن القرار الذي اتخذه سلفه والقاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء، لكن على أصعدة أخرى يظهر أن إدارة بايدن ستلجأ للضغط على المغرب عبر أذرعها المعتادة، مع تحاشي دفع الرباط لقدم الحائط تجنبا للعودة للمربع الأول فيما يخص العلاقة بين تل أبيب والرباط.
إلى اليوم عين بايدن سفراء في دول كثيرة لكنه قفز على المغرب، كما أنه استدعى أربعين دولة لقمة افتراضية حول المناخ وأسقط من لائحته اسم المغرب، رغم أنه البلد الذي احتضن الكوب 22 التي انبثق عنها "إعلان مراكش".
في أمريكا يقولون "العقد مقدس"، وعندما تبرم عقدا فيجب أن تلتزم ببنوده إلى الآخر. والمغرب أبرم عقودا مع شركائه من أجل المستقبل ولكي تظل منطقة شمال إفريقيا مستقرة ولكي تكون بوابة العالم نحو العمق الأفريقي، حيث تتكاثف المصالح وتتعاظم الأطماع والمخاطر.
والآن يبدو أننا تجاوزنا مرحلة إعلان النوايا الطيبة ورمي الورود ونظم قصائد الغزل حول التعايش وغير ذلك من الإنشاءات المغرقة في المثالية والعاطفة، وها قد حان الوقت بالنسبة لشركاء المغرب لتجسيد الاتفاقيات الموقعة على أرض الواقع.
أما إذا كان بايدن يحب المآسي التاريخية إلى هذا الحد، فما عليه سوى أن يعترف بإبادة الأمريكيين الأوائل للهنود الحمر، فعندما جاء الأوروبيون إلى ما يعرف الآن بالولايات المتحدة كان بها نحو مليون هندي، ولكن ما يقارب 300 عام من المذابح المستمرة قلّصت ذلك العدد إلى نحو 237,000 في عام 1900.
ثم عليه أن يعترف بالإبادة التي اقترفها الفرنسيون في حق
مليون شهيد جزائري. ناهيك عن إبادة الفرنسيين والبلاجكة والهولنديين والإسبان للشعوب الأفريقية واللاتينية. كما عليه أن يعترف بالإبادة التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب الذين ذبحوا أكثر من 300000 مسلم.
واللائحة طويلة...